فصل: تفسير الآية رقم (194):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (192- 193):

{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} مبالغةٌ في استدعاء الوقايةِ وبيانٌ لسببه. وتصديرُ الجملةِ بالنداء للمبالغةِ في التضرع والجُؤار، وتأكيدُها لإظهار كمالِ اليقينِ بمضمونها والإيذانِ بشدة الخوفِ، وإظهارُ النارِ في موضع الإضمارِ لتهويلِ أمرِها، وذكرُ الإدخالِ في مورد العذابِ لتعيين كيفيتِه وتبيينِ غاية فظاعتِه. قال الواحدي: للإخزاء معانٍ متقاربةٌ يقال: أخزاه الله أي أبعده، وقيل: أهانه، وقيل: أهلكه، وقيل: فضحه. قال ابن الأنباري: الخزيُ لغةً الهلاكُ بتلف أو بانقطاع حجةٍ أو بوقوع في بلاء، والمعنى فقد أخزيته خِزياً لا غايةَ وراءَه كقولهم: من أدرك مَرْعى الصمّانِ فقد أدرك، أي المرعى الذي لا مرعى بعدَه، وفيه من الإشعار بفظاعة العذابِ الروحاني ما لا يخفى. وقولُه تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} تذييلٌ لإظهار نهايةِ فظاعةِ حالِهم ببيان خلودِ عذابِهم بفُقدان من ينصُرهم ويقوم بتخليصهم، وغرضُهم تأكيدُ الاستدعاءِ ووضعُ الظالمين موضعَ ضميرِ المُدخَلين لذمهم والإشعارِ بتعليل دخولِهم النارَ بظلمهم ووضعِهم الأشياء في غير مواضعِها، وجمعُ الأنصارِ بالنظر إلى جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار، والمرادُ به من ينصُر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دِلالةٌ على نفي الشفاعةِ، على أن المرادَ بالظالمين هم الكفارُ.
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان} حكايةٌ لدعاء آخرَ لهم مبنيٌّ على تأملهم في الدليل السمعيِّ بعد حكايةِ دعائِهم السابقِ المبنيِّ على التفكر في الأدلة العقليةِ، وتصديرُ مقدمةِ الدعاءِ بالنداء لإظهار كمالِ الضراعةِ والابتهالِ، والتأكيدُ للإيذان بصدور المقالِ عنهم بوفور الرغبةِ وكمالِ النشاطِ، والمرادُ بالنداء الدعاءُ وتعديتُهما بإلى لتضمُّنهما معنى الإنهاءِ، وباللام لاشتمالها على معنى التخصيص والمرادُ بالمنادي الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وتنوينُه للتفخيم، وإيثارُه على الداعي للدلالة على كمال اعتنائِه بشأن الدعوةِ وتبليغِها إلى الداني والقاصي لما فيه من الأيذان برفع الصوتِ و{يُنَادِى} صفةٌ لمنادياً عند الجمهورِ كما في قولك: سمعتُ رجلاً يقول: كيت وكيت ولو كان معرفةً لكان حالاً منه كما إذا قلت: سمعت زيداً يقول الخ، ومفعولٌ ثانٍ لسمعنا عند الفارسي وأتباعِه، وهذا أسلوبٌ بديعٌ يُصار إليه للمبالغة في تحقيق السماعِ والإيذانِ بوقوعه بلا واسطةٍ عند صدورِ المسموعِ عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضارِ صورتِه، وقد اختص النظمُ الكريمُ بمزية زائدةٍ على ذلك حيث عبَّر عن المسموع منه بالمنادي ثم وَصَفه بالنداء للإيمان على طريقة قولك: سمعت متكلماً يتكلم بالحِكمة لما أن التفسيرَ بعد الإبهامِ والتقييدَ بعد الإطلاقِ أوقعُ عند النفسِ وأجدرُ بالقبول. وقيل: المنادي القرآنُ العظيمُ {أنْ آمِنُوا} أي آمنوا على أن {ءانٍ} تفسيريةٌ أو بأنْ آمِنوا على أنها مصدريةٌ {بِرَبّكُمْ} بمالككم ومتوليِّ أمورِكم ومبلِّغِكم إلى الكمال، وفي إطلاق الإيمانِ ثم تقييدِه تفخيمٌ لشأنه.
{فَئَامَنَّا} أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءَه {رَبَّنَا} تكريرٌ للتضرُّع وإظهارٌ لكمال الخضوعِ وعرضٌ للاعتراف بربوبيته مع الإيمان به، والفاءُ في قوله تعالى: {فاغفر لَنَا} الفاء لترتيب المغفرةِ أو الدعاءِ بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعي المغفرةِ والدعاءِ بها {ذُنُوبَنَا} أي كبائرَنا فإن الإيمان يجُبُّ ما قبله {وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} أي صغائرَنا فإنها مكفَّرةٌ عمن اجتنبَ الكبائرَ {وَتَوَفَّنَا مَعَ الابرار} أي مخصوصين بصُحبتهم مغتنمين لجوارهم، معدودين من زُمرتهم، وفيه إشعارٌ بأنهم كانوا يحبون لقاءَ الله «ومن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءَه» والأبرارُ جمع بارَ أو بَرَ كأصحاب وأرباب.

.تفسير الآية رقم (194):

{رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
{رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} حكايةٌ لدعاءٍ آخرَ لهم مسبوقٍ بما قبله معطوفٍ عليه لتأخّر التحليةِ عن التخلية، وتكريرُ النداء لما مر مكرراً، والمرادُ بالموعود الثوابُ و{على} إما متعلقةٌ بالوعد كما في قولك: وعد الله الجنةَ على الطاعة أي وعدتَنا على تصديق رسلِك، أو بمحذوف وقع صفةً لمصدر مؤكدٍ محذوفٍ أي وعدتنا وعداً كائناً على ألسنة رسلِك، وقيل: التقديرُ منزلاً على رسلك أو محمولاً على رسلك، ولا يخفى أن تقديرَ الأفعالِ الخاصةِ في مثل هذه المواقعِ تعسفٌ، وجمعُ الرسلِ مع أن المناديَ هو الرسولُ صلى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوتَه عليه السلام لاسيما في باب التوحيدِ وما أجمع عليه الكلُّ من الشرائع منطويةٌ على دعوة الكلِّ فتصديقُه تصديقٌ لهم عليهم السلام، كيف لا وقد أخذ منهم الميثاقَ بالإيمان به عليه السلام لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب} الآية، وكذا الموعودُ على لسانه من الثواب موعودٌ على ألسنة الكلِّ، وإيثارُ الجمعِ لإظهار كمالِ الثقةِ بإنجاز الموجودِ بناءً على كثرة الشهود.
{وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} قصَدوا بذلك تذكيرَ وعدِه تعالى بقوله: {يَوْمٌ لاَّ يخزِى الله النَّبىّ والَّذِينَ آمنُوا مَعَهُ} مُظْهرين أنهم ممن آمن معه رجاءً للانتظام في سلكهم يومئذ، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} تعليلٌ لتحقيق ما نَظَموا في سلك الدعاءِ، وهذه الدعواتُ وما في تضاعيفها من كمالِ الضراعةِ والابتهالِ ليست لخوفهم من إخلاف الميعادِ بل لخوفهم من ألا يكونوا من جملة الموجودين بتغير الحالِ وسوءِ الخاتمةِ والمآلِ، فمرجِعُها إلى الدعاء بالتثبيت، أو للمبالغة في التعبُّد والخشوعِ. والميعادُ الوعدُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه البعثُ بعد الموت وفي الآثار عن جعفر الصادق: من حزَ به أمرٌ فقال ربنا خمسَ مراتٍ أنجاه اللَّهُ مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية.

.تفسير الآية رقم (195):

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} الاستجابةُ بمعنى الإجابة، وقال تاجُ القراء: الإجابة عامةٌ والاستجابة خاصةٌ بإعطاء المسؤولِ، وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله:
فلم يستجبْهُ عند ذاك مُجيبُ

وهو عطفٌ على الاستئنافِ المقدَّرِ فيما سلف، مترتبٌ على ما في حيزه من الأدعية كما أن قوله عز وجل: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} إلخ عطفٌ على قيل المقدَّرِ قبل الآنَ، أي قيل لهم آلآْنَ آمنتم به؟ ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} معطوفٌ على ما دل عليه معنى {أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ} إلخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية ونطبَع إلخ ولا ضيرَ في اختلافهما صيغةً لما أن صيغةَ المستقبلِ هناك للدِلالة على الاستمرار المناسبِ لمقام الدعاءِ، وصيغةَ الماضي هاهنا للإيذان بتحقيق الاستجابةِ وتقرّرِها كما لا ضير في الاختلاف بين قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} وبين ما عُطف عليه من قوله تعالى: {فاستجاب لَكُمْ} كما سيأتي، ويجوز أن يكون معطوفاً على مضمَرٍ ينساق إليه الذهنُ، أي دَعَوا بهذه الأدعيةِ فاستجاب إلخ وأما على تقدير كونِ المقدرِ حالاً فهو عطفٌ على يتفكرون باعتبار مقارنتِه لما وقع حالاً من فاعله، أعني قوله تعالى ربنا ربنا إلخ فإن الاستجابةَ مترتبةٌ على دَعَواتهم لا على مجرد تفكّرِهم، وحيث كانت هي من أوصافهم الجميلةِ المترتبةِ على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظامَ في سلك محاسِنهم المعدودةِ في أثناء مدحِهم، وأما على تقدير كونِ الموصولِ نعتاً لأولي الألبابِ فلا مَساغَ لهذا العطفِ أصلاً لما عرفتَ من أن حقَّ ما في حيِّز الصلةِ أن يكون من مبادي جَرَيانِ الحُكمِ على الموصول، وقد عرفت أن دَعَواتِهم السابقةَ ليست كذلك، فأين الاستجابةُ المتأخرةُ عنها؟ وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافةِ إلى ضميرهم من تشريفهم وإظهارِ اللطفِ بهم ما لا يخفى.
{أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} أي بأني، وهكذا قرأ أُبيٌّ رضي الله عنه، والباءُ للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم ربُّهم بسبب أنه لا يُضيع عملَ عامل منهم أي سُنّتُه السنيةُ مستمرَّةٌ على ذلك، والالتفاتُ إلى التكلم، والخطابُ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن الاستجابةِ وتشريفِ الداعين بشرف الخطاب، والمرادُ تأكيدُها ببيان سببها والإشعارُ بأن مدارَها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجردُ الدعاءِ. وتعميمُ الوعدِ لسائر العاملين وإن لم يبلُغوا درجةَ أولي الألبابِ لتأكيد استجابةِ الدعواتِ المذكورةِ، والتعبيرُ عن ترْك الإثابةِ بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقةٍ إذ الأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَمَ من تخلّفه عنها ضياعُها لبيان كمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه من القبائح، وإبرازِ الإثابةِ في معرض الأمورِ الواجبةِ عليه.
وقرئ بكسر الهمزةِ على إرادة القولِ أي قائلاً إني إلخ فلا التفاتَ حينئذٍ وقرئ {لا أُضيِّع} بالتشديد، ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لعامل، أي عاملٍ كائنٍ منكم، وقولُه تعالى: {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بيانٌ لعامل وتأكيدٌ لعمومه، وقوله تعالى: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} جملةٌ معترضةٌ مبينةٌ لسبب انتظامِ النساءِ في سلك الرجالِ في الوعد، فإن كونَ كلَ منهما من الآخَر لتشعُّبهما من أصل واحدٍ أو لفرط الاتصالِ بينهما أو لاتفاقهما في الدين والعملِ بما يستدعي الشركةَ والاتحادَ في ذلك.
روي أن أمَّ سلمةَ رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسمعُ اللَّهَ تعالى يذكرُ الرجالَ في الهجرة ولا يذكرُ النساءَ فنزلت.
وقوله تعالى: {فالذين هاجروا} ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل في العمل وتعدادٌ لبعض أحاسنِ أفرادِه على وجه المدحِ والتعظيمِ، أي فالذين هجَروا الشركَ أو الأوطانَ والعشائرَ للدين، وقوله تعالى: {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} على الأول عبارةٌ عن نفس الهجرةِ وعلى الثاني عن كيفيتها وكونِها بالقسر والاضطرار {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِى} أي بسبب اللَّهِ ومن أجله، وهو متناولٌ لكل أذيةٍ نالتهم من قِبَل المشركين {وَقَاتِلُواْ} أي الكفارَ في سبيل اللَّهِ تعالى {وَقُتّلُواْ} استُشهدوا في القتال، وقرئ بالعكس لما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ أو لأن المرادَ قتلُ بعضِهم وقتالُ آخَرين، إذ ليس المعنى على اتصاف كلِّ فردٍ من أفراد الموصولِ المذكورِ بكل واحدٍ مما ذكر في حيز الصلةِ بل على اتصاف الكلِّ بالكل في الجملة، سواءً كان ذلك باتصاف كلِّ فردٍ من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورةِ أو بإثنين منها أو بأكثرَ، إما بطريق التوزيعِ أو بطريق حذفِ بعضِ الموصولاتِ من البعض كما هو رأيُ الكوفيين كيف لا ولو أُدير الحُكمُ على اتصاف كلِّ فردٍ بالكل لكان قد أُضيع عملُ من اتصف بالبعض، وقرئ {وقتِّلوا} بالتشديد.
{لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي واللَّهِ لأكفِّرن، والجملةُ القسميةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو الموصولُ، وهذا تصريحٌ بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما وَعَد ذلك عموماً وقوله تعالى: {وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} إشارة إلى ما عبَّر عنه الداعون فيما قبلُ بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وتفسيرٌ له {ثَوَاباً} مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله، فإن تكفيرَ السيئاتِ وإدخالَ الجنَّةِ في معنى الإثابة، وقوله تعالى: {مِنْ عِندِ الله} متعلق بمحذوف هو صفةٌ له مبينةٌ لشرفه أي لأُثيبنَّهم إثابةً كائنةً أو تثويباً كائناً من عنده تعالى بالغاً إلى المرتبة العاليةِ من الشرف، وقوله تعالى: {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله، والاسمُ الجليلُ مبتدأٌ خبرُه عنده، وحسنُ الثوابِ مرتفعٌ بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو هو مبتدأٌ ثانٍ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ، والعنديةُ عبارةٌ عن الاختصاص به تعالى مثلُ كونِه بقدرته تعالى وفضلِه بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُه بحال شيءٍ يكون بحضرة أحدٍ لا يدَ عليه لغيره، فالاختصاصُ مستفادٌ من التمثيل سواءٌ جُعل عنده خبراً مقدماً لحسن الثوابِ أو لا، وفي تصدير الوعدِ الكريمِ بعدم إضاعةِ العملِ ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسانِ الذي لا يُقدَّر قدرُه من لُطف المسلكِ المُنبىءِ عن عظم شأنِ المحسِنِ ما لا يخفى.

.تفسير الآيات (196- 198):

{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} بيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بيانِ حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم على أن المرادَ تثبيتهُ على ما هو عليه كقوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} أو على أن المرادَ نهيُ المؤمنين كما يُوجَّهُ الخطابُ إلى مَدارِهِ القومِ ورؤسائِهِم، والمرادُ أفناؤهم، ولكل أحد ممن يصلُح للخطاب من المؤمنين والنهيُ للمخاطب، وإنما جُعل للتقلب مبالغةً أي لا تنظُر إلى ما عليه الكفرةُ من السعة ووفورِ الحظِّ ولا تغترَّ بظاهر ما ترى منهم من التبسّط في المكاسب والمتاجرِ والمزارع. روي أن بعضَ المؤمنين كانوا يرَوْن المشركين في رخاء ولين عيشٍ فيقولون إن أعداءَ اللَّهِ تعالى فيما نرى من الخير وقد هلَكْنا من الجوع والجهد فنزلت. وقرئ {لا يغُرَّنك} بالنون الخفيفة {متاع قَلِيلٌ} خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هو متاعٌ قليلٌ لا قدرَ له في جنب ما ذُكر من ثواب اللَّهِ تعالى قال عليه السلام: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعل أحدُكم أصبَعَه في اليمّ فلينظُر بم يرجِعُ» فإذن لا يُجدي وجودُه لواجديه ولا يضُرُّ فقدانُه لفاقديه {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} أي مصيرُهم الذي يأوون إليه لا يبرَحونه {جَهَنَّمُ} التي لا يوصف عذابُها وقوله تعالى: {وَبِئْسَ المهاد} ذمٌّ لها وإيذانٌ بأن مصيرَهم إليها مما جنته أنفسُهم وكسبتْه أيديهم، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس ما مَهدوا لأنفسهم جهنَّمُ {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} بيانٌ لكمال حسنِ حالِ المؤمنين غِبَّ بيانٍ وتكريرٌ له إثرَ تقرير مع زيادة خلودِهم في الجنَّاتِ ليتم بذلك سرورُهم ويزدادَ تبجُّحُهم، ويتكاملَ به سوءُ حالِ الكفرةِ.
وإيرادُ التقوى في حيز الصلةِ للإشعار بكون الخصالِ المذكورةِ من باب التقوى، والمرادُ به الاتقاءُ من الشرك والمعاصي، فالموصولُ مبتدأ والظرفُ خبرُه وجناتٌ مرتفعٌ به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو الظرفُ خبرٌ لجناتٌ والجملةُ خبرٌ للموصول، وخالدين فيها أي في الجنات حالٌ مقدرةٌ من الضمير أو من جناتٌ لتخصّصها بالوصف، والعاملُ ما في الظرف من معنى الاستقرارِ {نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله} وقرئ بسكون الزاي وهو ما يُعدّ للنازل من طعام وشرابٍ وغيرِهما قال أبو الشعر الضبي:
وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافنا ** جعلنا القَنا والمرهفاتِ له نُزْلا

وانتصابُه على الحالية من جناتٌ لتخصصها بالوصف، والعاملُ فيه ما في الظرف من معنى الاستقرارِ، وقيل هو مصدرٌ مؤكدٌ كأنه قيل رِزقاً أو عطاءً من عند الله {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ} مبتدأ وخبرٌ وقوله تعالى: {لّلابْرَارِ} متعلقٌ بمحذوف هو صفةٌ لخيرٌ أي ما عنده تعالى من الأمور المذكورةِ الدائمةِ خيرٌ كائنٌ للأبرار، أي مما يتقلب فيه الفجارُ من المتاع القليلِ الزائلِ، والتعبيرُ عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفاتِ المعدودَة من أعمال البرِّ كما أنها من قبيل التقوى، والجملةُ تذييل لما قبلها.